فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيًا كان أو حالًا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة.
ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولًا للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق.
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وإن الاستقلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على {أولئك} المشار به إلى {الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة وكفى به مخصصًا اهـ.
وفيه أن الاجماع لا يكون مخصصًا فيما نحن فيه لكونه متراخيًا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم فالحكم بالفسق على {أولئك} المشار به إلى {الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] وهو عام فيتم الاستدلال.
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى.
وفي قوله: ومن شرط الاستثناء المتصل الخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا، وقال العلامة: الظاهر كون الاستثناء متصلًا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليه في الصدر بقرينة الجملة الاسمية.
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلًا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له لما صح استثناؤه فههنا.
{الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدًا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال: خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى، قال القلامة: ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث أعني التائب من الذنب كمن لا ذنب له مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلومًا هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة، وقال أيضًا: لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال: كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدًا بمعنى أن زيدًا وإن كان غنيًا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول: فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس، وقد يقال: إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة، ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين الخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل {الذين} حرفًا مصدريًا لا اسمًا موصولًا وضمير {تَابُواْ} عائدًا على {أولئك} [النور: 4] وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغًا متصلًا لا منقطعًا انتهى فتأمل. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

الإشارة: الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب، وهو من شيم ذوي الألباب، وبه السلامة من الهلاك والعطَب، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب، وأقبح العيوب، ولله در القائل:
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم ** وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ

لِسَانَكَ لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرىءٍ ** فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ

وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيبًا فقل لها ** أيا عَيْنُ لا تنظري فللناس أعيُنُ

وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى ** وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ

فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه، ولا يرى في المملكة سواه، يذكر الله على الأشياء، فتنقلب نورًا؛ لحسن ظنه بالله، ويلتمس المعاذر لعباد الله؛ لكمال حسن ظنه بهم. وبالله التوفيق. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} أي: يقذفون بالزنى: {الْمُحْصَنَاتِ} أي: المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي: يشهدون على ما رموهن به: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي: كل واحد من الرامين. وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع. وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي: في أي: واقعة كانت، لظهور كذبهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: القذف: {وَأَصْلَحُوا} أي: أعمالهم: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: بقبول توبتهم وعفوه عنهم.
تنبيهات:
الأول: قال ابن تيمية: ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضى ولا من ذوي العدل ولهذا تنازعوا: هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟ على قولين: أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعًا. فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة. ولو لم تشهد المرأة، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن، أو يخلى سبيلها؟ فيه نزاع. فلا يلزم من درء الحد عن القاذف، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد. والحدود تدرأ بالشبهات. وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثًا درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير مِحْصَن، مثل أن يكون مشهورًا بالفاحشة، لم يحد قاذفه حد القذف. ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة. وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد. ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين. لكن يقال لم يقيّدهم بالعدالة، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، فهم يقومون بها بالقسط لله، فيحصل مقصود الذي استشهدوه.
والوجه الثاني: كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا. فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء. وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره. وأما الفاسقان فصاعدًا. فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع. وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك.
ونحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة. ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد، لا في آية الزنى، ولا في آية القذف. بل قال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد، ولم يأمر به عند خبر الفاسقيْن. فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد. ولهذا قال العلماء: إذا استراب الحاكم في الشهود، فرّقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم. انتهى.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ذهب الجمهور إلى أن شهادة القذف بعد التوبة تقبل. ويزول عنه اسم الفسق. سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} روى البيهقيّ عن ابن عباس في هذه الآية: فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل. وتأولوا قوله تعالى: {أَبَدًا} على أن المراد ما دام مصرًّا على قذفه. لأن أبد كل شيء على ما يليق به. كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدًا، فإن المراد ما دام مصرًّا على الكفر. وبالغ الشعبيّ فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه، سقط عنه. وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة. فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق، وأما شهادته فلا تقبل أبدًا. وقال بذلك بعض التابعين. انتهى.
قال الزمخشري: والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط. كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلودهم، وردّوا شهادتهم وفسّقوهم. أي: فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا، فإن الله يغفر لهم، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين. انتهى.
وأخرج البخاريّ في صحيحه في كتاب الشهادات في باب شهادة القاذف والسارق والزاني، عن عمر رضي الله عنه؛ أنه جلد أبا بكرة وشبل بن مَعْبَد ونافعًا، بقذف المغيرة بالزنى، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة. ولم يبتّ زيادٌ الشهادة. ثم استتابهم وقال: من تاب قبلتُ شهادته. وفي رواية قال لهم: من أكذب نفسه قبلتُ شهادته فيما يستقبل. ومن لم يفعل، لم أجز شهادته. فأكذب شِبْل نفسه ونافع. وأبى أبو بكرة أن يرجع.
قال المهلب: يستنبط من هذا؛ أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطًا في قبول توبته. لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها.
الثالث: قال الرازيّ: اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون؟
قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه. فقال الإصطخريّ: يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله. وقال أبو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقًا فيكون قوله: كذبت كذبًا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل. ندمت على ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
الرابع: قال الرازيّ في قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} قال أصحابنا: إنه بعد التوبة، لابد من مضيّ مدة عليه في حسن الحل، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته. ثم قدَّروا تلك المدة بسَنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة، التي تتغير فيها الأحوال والطباع. كما يضرب للعنّين أجل سنة. وقد علق الشرع أحكامًا بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما. انتهى.
وقال الغزاليّ في الوجيز يكفيه أن يقول: تبت ولا أعود. إلا إذا أقر على نفسه بالكذب، فهو فاسق، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول: تبت. فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته. انتهى.
وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته، ولو على أثر الحدّ.
قال الحافظ ابن حجر: روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال: رأيت رجلًا جُلد حدًّا في قذف بالزنى. فلما فرغ من ضربه أحدث توبة. فلقيت أبا الزناد فقال لي: الأمر عندنا بالمدينة؛ إذا رجع القاذف عن قوله، فاستغفر ربه، قبلت شهادته وعلّقه البخاريّ.
الخامس: ننقل هنا ما أجمله السيوطيّ في الإكليل مما يتعلق بأحكام الآية. قال رحمه الله: في هذه الآية تحريم القذف، وأنه فسق، وأن القاذف لا تقبل شهادته، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي: عفيفة. ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف. ويصرح بذلك قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (4) وفيها أن الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال، لا أقل. ولا نساء. وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين. واستدل بعموم الآية من قال: يحدّ العبد أيضًا ثمانين. ومن قال: يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده. واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحدّ لنفسه. لأنه لم يرح أحدًا واستدل بها من قال: إن حد القذف من حقوق الله، فلا يجوز العفو عنه. انتهى.